فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الكافر، فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة ولا يوجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى فارغة لفراغها وخلوها عن الخير، فيأمر الله بهم إلى النار ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره وآثامه.
وأما المتقون، فإن صغائرهم تكفر باجتنابهم الكبائر ويؤمر بهم إلى الجنة ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته وطاعته، فهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن في آيات الوزن، لأن الله تعالى لم يذكر إلا من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه، وقطع لمن ثقلت موازينه بالإفلاح والعيشة الراضية ولمن خفت موازينه بالخلود في النار بعد أن وصفه بالكفر، وبقي الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا فبينهم النبي صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكرناه.
وإنما توزن أعمال المؤمن المتقي لإظهار فضله، كما توزن أعمال الكافر لخزيه وذله، فإن أعماله توزن تبكيتًا له على فراغه وخلوه عن كل خير، فكذلك توزن أعمال المتقي تحسينًا لحاله وإشارة لخلوه من كل شر وتزيينًا لأمره على رؤوس الأشهاد. وأما المخلط السيء بالصالح فإن دخل النار فيخرج بالشفاعة على ما يأتي.
فصل:
فإن قيل: أخبر الله عن الناس أنهم محاسبون مجزيون، وأخبر أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولم يخبر عن ثواب الجن ولا عن حسابهم بشيء. فما القول في ذلك عندكم وهل توزن أعمالهم؟.
فالجواب: أنه قد قيل إن الله تعالى لما قال والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون دخل في الجملة الجن والإنس، فثبت للجن من وعد الجنة بعموم الآية ما ثبت للإنس وقال أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ثم قال ولكل درجات مما عملوا وإنما أراد لكل من الجن والإنس فقد ذكروا في الوعد والوعيد مع الإنس، وأخبر تعالى أن الجن يسألون فقال خبرًا عما يقال لهم: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا} وهذا سؤال، وإذا ثبت بعض السؤال ثبت كله وقد تقدم هذا، وقال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} وهذا يدل صريحًا على أن حكمهم في الآخرة كالمؤمنين. وقال حكاية عنهم {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون} الآيتين.
ولما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زادهم كل عظيم وعلف دوابهم كل روث «فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم الجان» فجعلهم إخواننا، وإذا كان كذلك فحكمهم كحكمنا في الآخرة سواء والله أعلم. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في باب ما جاء أن الله يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان.
فصل:
قوله في الحديث: «فيخرج له بطاقة فيه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» ليست هذه شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في كفة شيء وفي أخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فهذا غير مستحيل لأن العبد يأتي بهما جميعًا، ويستحيل أن يأتي الكفر والإيمان جميعًا عند واحد حتى يوضع الإيمان في كفة والكفر في كفة، فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان وأما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة توضع في الميزان مع سائر الحسنات. قاله الترمذي الحكيم رحمه الله.
وقال غيره: إن النطق بها زيادة ذكر على حسن نية وتكون طاعة مقبولة قالها على خلوة وخفية من المخلوقين، فتكون له عند الله تبارك وتعالى وديعة يردها عليه في ذلك اليوم بعظم قدرها ومحل موقعها وترجح بخطاياه وإن كثرت، وبذنوبه وإن عظمت، ولله الفضل على عباده ويتفضل على من يشاء بما شاء.
قلت: ويدل على هذا قوله في الحديث فيقول: «بلى إن لك عندنا حسنة» ولم يقل إن لك إيمانًا، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله أمن الحسنات هي؟ فقال: «من أعظم الحسنات» خرجه البيهقي وغيره.
ويجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا كما في حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله وجبت له الجنة رواه صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ وقد تقدم أول الكتاب.
وقيل: يجوز حمل هذه الشهادة على الشهادة التي هي الإيمان، ويكون ذلك في كل مؤمن ترجح حسناته ويوزن إيمانه كما توزن سائر حسناته وإيمانه يرجح سيئاته كما في هذا الحديث، ويدخله النار بعد ذلك فيطهره من ذنوبه ويدخله الجنة بعد ذلك، وهذا مذهب قوم يقولون: إن كل مؤمن يعطى كتابه بيمينه وكل مؤمن يثقل ميزانه ويتأولون قوله الله تعالى فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون أي الناجون من الخلود وهو في قوله فهو في عيشة راضية يوما ما وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة» إنه صائر إليها لا محالة أصابه قبل ذلك ما أصابه.
قلت: هذا تأويل فيه نظر يحتاج إلى دليل من خارج ينص عليه، والذي تدل عليه الآي والأخبار أن من ثقل ميزانه فقد نجا وسلم وبالجنة أيقن وعلم أنه لا يدخل النار بعد ذلك والله أعلم. وقال عليه السلام: «ما شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن» خرجه الترمذي عن أبي الدرداء وقال فيه حديث حسن صحيح، وقد تقدم من حديث سمرة بن جندب: «ورأيت رجلًا من أمتي قد خف ميزانه فجاء أفراطه فثقلوا ميزانه» وكذلك الأعمال الصالحة دليل على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر القشيري في التحبير له: يحكى عن بعضهم أنه قال: رأيت بعضهم في المنام فقلت ما فعل الله بك؟ فقال: وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات، فجاءت صرة من السماء وسقطت في كفة الحسنات فرجحت فحللت الصرة، فإذا فيها كف تراب ألقيته في قبر مسلم، وذكر أبو عمر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده عن حماد بن زيد عن أبي حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله عز وجل {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} قال: يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فتخفف، فيجاء بشيء أمثال الغمام أو قال مثل السحاب فيوضع في ميزانه فترجح فيقال له: أتدري ما هذا فيقول: لا. فيقال له: هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس أو نحو ذلك.
باب منه:
الترمذي عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل قال: فتنحى الرجل فجعل يبكى ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تقرأ كتاب الله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا الآية؟ فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي وهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم. أشهدك أنهم أحرار كلهم». قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان.
وقد روى أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث، وعن وهب بن منبه في قوله تعالى {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وإذ أراد الله بعبد خيرًا ختم له بخير وإذا أراد الله به شرًّا ختم له بشر عمله. ذكره أبو نعيم.
قال المؤلف هذا صحيح يدل عليه قوله عليه السلام: «وإنما الأعمال بالخواتيم» والله تعالى أعلم. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في الآيات: {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] الخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكير في جلاله وجماله سبحانه ساهية، وفي قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة} [الأنبياء: 11] فيه إشارة إلى أن في الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خراب بدنه وهلاكه بالعذاب، وفي قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار {وَمَنْ عِندَهُ} [الأنبياء: 19] قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس، وفي قوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئًا بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدار مع طيب النفس، ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا بره لم يتوف حتى ترقى عن مقام الإدلال إلى التفويض المحض، وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه الجواهر واليواقيت.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَىّ} [الأنبياء: 30] قد تقدم ما فيه من الإشارة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} قال الجنيد قدس سره: من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك، ولا يخفى أنه كثيرًا ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبت في كل عما يحطه عن درجته، ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 41] قال بعض الصوفية: الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا، ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفسًا منها السموات والأرض.
وذكروا أن في الدنيا موازين أيضًا وأعظم موازينها الشريعة وكفتاه الكتاب والسنة، ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال أنه عز وجل المتفضل بأنواع الإفضال. اهـ.

.تفسير الآيات (48- 50):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم في قوله: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم}- الآية وغيره أنهم أعرضوا عن هذا الذكر تعللًا بأشياء منها طلب آيات الأولين، ونبه على إفراطهم في الجهل بما ردوا من الشرف بقوله: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم} ومر إلى أن ختم بالتهديد بعذابه، وأنه يحكم بالقسط، وكان كتاب موسى عليه السلام بعد القرآن أعظم الكتب السماوية، وكان أهل الكتاب قد أعرضوا عنه غير مرة على زمن موسى عليه السلام بعبادة العجل وغيره وبعد موته مع كون المرسل، به اثنان تعاضدا على إبلاغه وتقرير أحكامه بعد أن بهرا العقول بما أتيا به من الآيات التي منها- كما بين في سورة البقرة والأعراف- التصرف في العناصر الأربعة التي هي أصل الحيوان الذي بدأ الله منها خلقه.
ومقصود السورة الدلالة على إعادته، ومنها ما عذب به من أعرض عن ذكر موسى وهارون عليهما السلام الذي هو ميزان العدل لما نشر من الضياء المورث للتبصرة الماحقة للظلام، فلا يقع متبعه في ظلم، وكان الحساب تفصيل الأمور ومقابلة كل منها بما يليق به، وذلك بعينه هو الفرقان، قال سبحانه بعد آية الحساب عاطفًا على {لقد أنزلنا}: {ولقد ءاتينا} أي بما لنا من العظمة {موسى وهارون} أي أخاه الذي سأل أن يشد أزره به {الفرقان} الذي تعاضدا على إبلاغه والإلزام بما دعا إليه حال لكونه مبينًا لسعادة الدارين، لا يدع لبسًا في أمر من الأمور {وضياء} لا ظلام معه، فلا ظلم للمستبصر به، لأن من شأن من كان في الضياء أن لا يضع شيئًا إلا في موضعه {وذكرًا} أي وعظًا وشرفًا.
ولما كان من لا ينتفع بالشيء لا يكون له منه شيء، قال: {للمتقين} أي الذين صار هذا الوصف لهم شعارًا حاملًا لهم على التذكير لما يدعو إليه الكتاب من التوحيد الذي هو أصل المراقبة؛ ثم بين التقوى بوصفهم بقوله: {الذين يخشون} أي يخافون خوفًا عظيمًا {ربهم} أي المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان {بالغيب} أي في أن يكشف لهم الحجاب {وهم من الساعة} التي نضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير، مبعد من كل ضير {مشفقون} لأنهم لقيامها متحققون، وبنصب الموازين فيها عالمون.
ولما ذكر فرقان موسى عليه السلام، وكان العرب يشاهدون إظهار اليهود للتمسك به والمقاتلة على ذلك والاغتباط، حثهم على كتابهم الذي هو أشرف منه فقال: {وهذا} فأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم {ذكر} أي عظيم، ودلهم على أنه أثبت الكتب وأكثرها فوائد بقوله: {مبارك} ودلهم على زيادة عظمته بما له من قرب الفهم والإعجاز وغيره بقوله: {أنزلناه} ثم أنكر عليهم رد ووبخهم في سياق دال على أنهم أقل من أن يجترئوا على ذلك، منبه على أنهم أولى بالمجاهدة في هذا الكتاب من أهل الكتاب في كتابهم فقال: {أفأنتم له} أي لتكونوا دون أهل الكتاب برد ما أنزل لتشريفكم عليهم وعلى غيرهم مع أنكم لا تنكرون كتابهم {منكرون} أي أنه لو أنكره غيركم لكان ينبغي لكم مناصبته، فكيف يكون الإنكار منكم؟. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}.
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام، تسلية للرسول عليه السلام فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض دونها وذكر هاهنا منها قصصًا.
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام:
ووجه الإتصال أنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى} [الأنبياء: 45] أتبعه بأن هذه عادة الله تعالى في الأنبياء قبله فقال: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْرًَا لّلْمُتَّقِينَ} واختلفوا في المراد بالفرقان على أقوال: أحدها: أنه هو التوراة، فكان فرقانًا إذ كان يفرق به بين الحق والباطل، وكان ضياء إذ كان لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى وسبل النجاة في معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع، وكان ذكرى أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف أما الواو في قوله: {وَضِيَاء} فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ ضياء بغير واو وهو حال من الفرقان، وأما القراءة المشهورة فالمعنى آتيناهم الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرى للمتقين.
والمعنى أنه في نفسه ضياء وذكرى أو آتيناهما بما فيه الشرائع والمواعظ ضياء وذكرى.
القول الثاني: أن المراد من الفرقان ليس التوراة ثم فيه وجوه: أحدها: عن ابن عباس رضي الله عنهما الفرقان هو النصر الذي أوتي موسى عليه السلام كقوله: {وما أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] يعني يوم بدر حين فرق بين الحق وغيره من الأديان الباطلة.
وثانيها: هو البرهان الذي فرق به دين الحق عن الأديان الباطلة عن ابن زيد.
وثالثها: فلق البحر عن الضحاك.
ورابعها: الخروج عن الشبهات، قال محمد بن كعب واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكرى بالمتقين لما في قوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أما قوله تعالى: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} فقال صاحب الكشاف: محل الذين جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه وفي معنى الغيب وجوه: أحدها: يخشون عذاب ربهم فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه وإيمانهم بالله غيبي استدلالي، فالعباد يعملون لله في الغيب والله لا يغيب عنه شيء عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وثانيها: يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها.
وثالثها: يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس وهذا هو الأقرب، والمعنى أن خشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم إلا أن ذلك مما يظهرونه في الملا دون الخلا {وَهُمْ مّنَ} عذاب {الساعة} وسائر ما يجري فيها من الحساب والسؤال {مُشْفِقُونَ} فيعدلون بسبب ذلك الإشفاق عن معصية الله تعالى، ثم قال وكما أنزلت عليهم الفرقان فكذلك هذا القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} بركته كثرة منافعه وغزارة علومه وقوله: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} فالمعنى أنه لا إنكار في إنزاله وفي عجائب ما فيه فقد آتينا موسى وهرون التوراة، ثم هذا القرآن معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البديعة واشتماله على الأدلة العقلية وبيان الشرائع، فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره. اهـ.